
(10)
أستيقظت هذا الصباح ولدى إحساس لم أعهده من قبل ..
إحساس بالراحة النفسية التى طالما بحثت عنها وإحساس بالسعادة والرضا والرغبة فى الإبتسام
فيا لها من أشياء أفتقدتها طوال الأيام الفائتة
فوجدت نفسى أشعر بسرور بالغ وأذهب لأفتح نافذة حجرتى وأشتم عبير الصباح
وأرى الشمس وهى تبدأ فى البذوغ على الرغم من الغيوم الذى يحيط بها
يبدو أن اليوم سيكون ممطراً بغزارة أكاد أن أرى ذلك فى السماء
ولكننى على الرغم من هذا الغيوم الذى يعاند شروق الشمس أشعر أن الجو بديعا ً جدا ً
فلم أشعر حتى ببرودة الشتاء
بل شعرت أننى فى فصل الربيع والنسيم هو الذى يداعب وجنتى
ولما كان هذا الصباح مشرقا ً فى حياتى خاصة ً فى تلك الظروف النفسية الصعبة التى أعانيها
علمت أن هذا اليوم سيكون مختلفاً فى حياتى فربما إيذاناً ببدء مرحلة جديدة بحياتى ..
فياله من يوم مبشر ..!!!
و وجدت نفسي أذهب إلى المطبخ الذى لم أدخله منذ أن دخل جسدى المرض
لأقوم بتحضير إفطاراً شهياً لأمى التى كانت لم تزل نائمة حينئذ
فقد كانت مستيقظة طوال الليل
لذلك قمت بمداعبتها صباحاً لكى تستيقظ وأخذت فى تقبيل وجهها و وجنتيها فأستيقظت على تلك القبلة وأبتسمت فى وجهى وقالت لى : ـ
"" وجهكِ مشرق اليوم كالعروس يوم زفافها فشحوب المرض هجركِ أخيراً ""
فتعالت ضحكاتى وقلت لها : ـ
"" ومنذ متى وأنا أعير للمرض إهتمام ""
وأخذت أضحك مجددا ً فإبتسمت وقالت لى : ـ
"" أخيراً رأيت ضحكتكِ تنير وجهك ""
فإبتسمت قائلة لها : ـ
"" لقد أعددت لكى طعاماً شهياً للإفطار .. ألم تشاركينى إفطار هذا النهار الجيد ""
فنظرت أمى إلى الشفق العالى فى السماء وقالت لى ضاحكة : ـ
""يبدو إنه سيكون يوماً جيدا ً فعلا ً .. فالسماء مبلدة بالغيوم والمطر على وشك أن يملئ الطرقات ..يبدو إنكِ لا تعيرين للطقس إهتمام أيضا ً .. كما إننى أراكِ ترتدين ملابس الصيف وكأنكِ لا تشعرين ببرودة الجو ""
فتعالت ضحكاتى مرة أخرى وقلت لها : ـ
""فأنا أشعر اليوم إننى فى أوج الربيع ""
فأمسكت بيديها وذهبنا إلى طاولة الطعام وتناولنا الأفطار معا ً متبادلين خلال ذلك أطراف الحديث والإبتسامات
وشعرت برغبة عارمة فى أن أنزل الحديقة بعد الأفطار و بالفعل قد فعلت على الرغم من محاولات أمى لإقصائى عن النزول فى هذا الطقس السيئ
وأخذت فى أختيار بعض الأزهار المحببة لدى و الموجودة فى الحديقة
فمازلنا فى فصل الشتاء وقليل من الأزهار هو الذى يزدهر فى ذلك الوقت من العام
ثم وضعت ما قمت بجمعه من الزهور فى المزهرية بحجرتى ورويتهم بالماء وأخذت أشتم عبيرهم الذى يذكرنى بأيام الطفولة و ذكريات الشباب مع من أحببت
فإبتسمت حينها وكأننى لا أريد أن أعكر صفو يومى بالذكريات المؤلمة
وذهبت لمساعدة أمى لإعداد الغداء كما قمت بترتيب المنزل حتى أجعله فى أبهى صورة
وبعد أن تناولنا الغداء جلست بين ذراعى أمى أتحدث معها عن أسرارى التى تعرفها جيدا ً وعن مدى صفاء قلبى اليوم
فكنت أجد بين ذراعيها الدفئ الحقيقى لبرد الشتاء
ثم وجدنا الشمس قد توارت بين ثنايا الليل وبدأنا نسمع أصوات الرعد تهز المكان ونرى البرق يخطف الأنظار
فجلسنا أنا وهى بجانب المدفئة و كلاً منا يتحدث عن أجمل ما لديه من ذكريات فتتعالى بيننا الضحكات حتى حان موعد النوم فالساعة قد قاربت منتصف الليل و قد نسينا الوقت من جمال مجلسنا معاً فمنذ فترة طويلة لم يجمعنا حديث هكذا
فدخلت أمى حجرتها لتنغمس فى سبات عميق أما أنا فدخلت حجرتى لأختم هذا اليوم الرائع بتسجيل أحداثه فى كتيبى الصغير فيا له من يوم مميز ..!!!
و بعد أن انهيت أحداث هذا اليوم الجميل شعرت بضيق
وكأن هناك حصار يحيط بى ويفرض على روحى و قلبى إختناقا لم أعهده من قبل
حينها فقط شعرت إننى لن أختتم كتابى فقط بل سأختتم اليوم حياتى ..
نعم فأنا أشعر أن شظايا الموت تداعبنى الآن فأنا لا أهاب الموت
ولكننى كنت أود أن أرى حبيبى اليوم لتكتمل روعة يومى وأموت براحة بعد أن آراه لكنه لم يأتى ..
فقد أتصلت به أمى هاتفياً لتدعوه لتناول الغداء معنا ولكنه تعلل بسوء الأحوال الجوية فدب الخوف فى وجدانى ..
هل سأموت قبل أن آراه ويرتب على يدى بدفئ يديه .. يالها من نهاية حزينة لقصة حبى !!!
كم أتمنى أن أموت بين ذراعيه كما أرى فى السينما ..!!!
ولكن هل سأحرم نفسى أيضاً من أن أسمع صوته فى لحظات الوداع هذا الصوت الحانى الذى تحتوينى دائما ً نبراته
فوجدت نفسى أرفع سماعة الهاتف وأتصل به فكيف سأموت حتى قبل أن أروى هذا القدر القليل من ظمأ الحب...؟
ووجدته إنه هو يرد على .. ينطق إسمى .. فإنفجرت فى البكاء دون أدنى سيطرة منى
آملا ً فى أن يفهم أن بكائى ما هو إلا رجاء ليأتينى لآراه قبل أن اموت
وبالفعل لا حظت قلقه على ..
وعندما سألنى ماذا حدث .. لم استطع أن أخبره .. فأغلقت الخط
وأخذت أسير فى حجرتى جيئة ً وذهابا ً والحيرة تقتلنى ..
هل سيأتى أم سينتظر حتى الصباح لتخبره أمى ماذا حدث فى الهاتف كما يفعل دائما ً...؟
ولكنها أول مرة يسمع فيها صوتى بعد شهر كامل من المؤكد إنه سيأتينى وسأنتظره حتى الموت
ففتحت باب شرفة حجرتى الموصدة لأنتظره بها وأخذت قلمى وكتابى الصغير معى لأستكمل تدوين أحداثى لحظة بلحظة
ونظرت من النافذة أترقب الشوارع الفارغة أملاً فى أن يظهر لى كفارس ينقذ حبيبته من قصرها المهجور متناسية أن زمن الفرسان قد أنتهى
آآآه فقد أنسانى إنتظاره و ترقب الشوارع والمارة والسيارت أن أترقب حركة المطر والسيول كما كنت أفعل دائما ً وهو معى فى تلك الأيام الثلجية
وفجأة شعرت إننى أتجمد من البرد ..
وهو لم يأتينى بعد
فجلست فى أحد أركان الشرفة أحتضن قدمى بيديى من شدة البرد
أنتظره وأترقب من أجله الشوارع
فأنا متأكدة إنه سيأتينى ولكننى لم أعد أشعر بأطراف أناملى فقد تسلل إليهم البرد
لذلك فسأكف عن الكتابة الآن
و سأضع القلم جانباً
وكلى أمل أن يأتينى وأموت بين ذراعاه ...

(11)
وكانت تلك نهاية كلمات نور التى كُتبت فى نهاية حياتها
فلأول مرة أعلم سبب إتصالها بى
وأعلم سبب وجودها بالنافذة تتجمد برداً فى أحد أركانها من شدة البرد
فقد كانت تنتظرنى
ولكننى كالعادة ذهبت بعد أن فارقت الحياة
آآآآآآآآه
فقد أنهيت الآن كتابها
فنظرت إلى الساعة لأجدها الثامنة صباحا ً فقد قرأت الكتاب كاملا ً ما بين ليلة وضحاها
دون أن أشعر بالساعات أو بالوقت أو أنم لحظة واحدة
فأخذت أرتدى ملابسى وخرجت قاصداً بيت نور
وعندما ذهبت لباب بيتهم وطرقته فتحت لى والدتها فأعطيتها الكتيب الصغير وقلت لها : ـ
"" لقد أستعرت هذا أمس دون علمكِ ""
فأردفت قائلة : ـ
"" وهل قرأته ..؟""
فأجبت عليها : ـ
" " قرأت كل كلمة كتبت فيه وحفظتها عن ظهر قلب " "
فقالت : ـ
" " والآن فقط علمت من تكون بالنسبة إليها ...ولكن هذا لن يفيدك الآن طالما من كانت تهواك قد ماتت ""
فقلت لها : ـ
"" سأهواها أكثر مما كانت تهوانى وإذا كان الموت قد خفف معاناتها فأنا سأظل أحبها طالما حييت ومهما طال آجلى لن أتزوج غيرها سأعيش من أجلها فقط .. سأعيش لأبادلها عشقها لى ""
فإبتسمت وقالت لى : ـ
"" على الرغم من سعادتى بمشاعرك هذه تجاه إبنتى
ولكنى لابد أن أقول لك إنها لو كانت على قيد الحياة لتمنيت لك السعادة دون أن تعذب نفسك من أجلها
فسبيل سعادتها الحقيقية فى أن تكون سعيدا ً بحياتك
وأن تجد غيرها ممن تستحق حبك وتعطى قلبك لها
وتنجب أولاداً يساندونك فى وهن الشيخوخة
ومن حين لآخر إذهب إلى قبرها جالباً لها الزهور التى تحبها لتضعها على القبر وتقرأ لها الفاتحة وتبتسم فهذا خير ما تفعله من أجلها ""
وأنتهى حديثى مع والدتها هكذا
وظللت لمدة خمسة سنوات لا أرى إمرأة غيرها فى مرآة حياتى
ولكن الحياة لا تتوقف بموت من يحبونا ونحبهم
فلقد علمتنى نور أن للحياة متع أخرى غير متع الحب
وتلك المتع موجودة حولنا بحياتنا فى أولادنا وأزواجنا و حياتنا المستقرة و نجاحنا فى عملنا
لذلك فإن حياتى أكملت دورتها للنهاية
فتزوجت من إمرأة تحبنى وأحبها على الرغم من أن حبى لها لم يتجاوز حبى لنور
فقد كانت فتاة جميلة طيبة وزوجة صالحة ونبتت بينا الرحمة والعشرة والمحبة وكلل زواجنا الأبناء
فكانت أكبرهم فتاة سميتها "" نور ""
على اسم من علمتنى معنى الحياة
فقد علمتنى نور كيف أشعر بالأشياء البسيطة من حولى مهما كانت تلك الأشياء صغيرة وتافهة فمن الممكن أن تجلب لنا السعادة لو أعطيناها الأهتمام اللازم
كما علمتنى أن الحياة جميلة مليئة بالمشاعر من حولنا التى لا نلاحظها إلا إذا دققنا النظر وتلك الحياة تستحق أن نحياها فأنا الآن رجلاً قد تجاوز السبعين عاماً ومازلت سعيدا ً وأشعر إننى أخذت من تلك الدنيا ما أريد
فقد أنعم الله على بالحب الأسطورى وبالزوجة الصالحة وبالأولاد الذين يمثلون جميعا ً كنز لا يفنى
فعندما تجتمع تلك الأشياء جميعا ً أشعر إننى محظوظا ً فكثير من الناس يعيشون أعماراً مديدة دون أن يحظوا بالحب الذى حظوت به وبالحياة التى أحياها فها أنذا على الرغم من شيخوختى فلم أنسى لحظة واحدة أو كلمة واحدة وجدتها فى كتيب نور
فكانت بالفعل تجربة تستحق أن أسجلها أنا الأخر لتكتمل أحداثها
فيكون كتابى مكملاً لكتابها فأنا حتى الآن مازلت أشتم عبير عطرها حولى وأشعر بوجودها بجانبى تساندنى فى أزمات حياتى
وحتى الآن أذهب كل يوم جمعة إلى مقبرتها ومعى الزهور التى تحبها لأنثرها فوق قبرها
وأقرأ لها الفاتحة متمنياً لها الرحمة
مبتسماً فى وجه روحها التى تراقبنى ...
تحياتى إنتهت بحمد الله
يارب اكون وفقت فى سردها ...